فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} بيّن ذلك في وجوههم بالكراهة والعبوس.
{يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يقعون ويبطشون {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} وأصل السطو: القهر.
{قُلْ} يا محمد لهم {أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم} أي بشرّ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون {النار} أي هي النار {وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير}.
{يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ} معنى ضرب: جعل، كقولهم: ضرب السلطان البعث على الناس، وضرب الجزية على أهل الذمّة أي جعل ذلك عليهم، ومنه قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} [البقرة: 61] والمثل حالة ثابتة تشبه بالأولى في الذكر الذي صار كالعلم، وأصله الشبه، ومعنى الآية: جعل لي المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي.
{فاستمعوا لَهُ} حالها وصفتها التي بيّنت وشبّهتها بها، ثم بيّن ذلك فقال عزَّ من قائل: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} قراءة العامة بالتاء، وروى زيد عن يعقوب يدعون بالياء {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا} في صغره وقلّته لأنّها لا تقدر على ذلك {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} لخلقه، والذباب واحد وجمعها القليل أذبنة والكثير ذبّان، مثل غراب وأغربة وغربان {وَإِن يَسْلُبْهُمُ} يعني الأصنام، أخبر عنها بفعل ما يعقل، وقد مضت هذه المسألة، يقول: وإن يسلبهم {الذباب شَيْئًا} مما عليهم {لاَّ} يقدرون أن {يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب}.
قال ابن عباس: الطالب الذباب والمطلوب الصنم، وذلك أن الكفّار كانوا يلطّخون أصنامهم بالعسل في كلّ سنة ثم يغلقون عليها أبواب البيوت فيدخل الذبّان في الكوى فيأكل ذلك العسل وينقيها منه فإذا رأوا ذلك قالوا: أكلت آلهتنا العسل.
الضحّاك: يعني العابد والمعبود، وقال: ابن زيد وابن كيسان: كانوا يحلّون الأصنام باليواقيت واللآلي وأنواع الجواهر ويطيّبونها بألوان الطيب، فربما يسقط واحد منها أو يأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها، فالطالب على هذا التأويل الصنم والمطلوب الذباب والطائر.
{مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظّموا الله حقّ تعظيمه، ولا عرفوه حقّ معرفته ولا وصفوه حقّ صفته إذ أشركوا به مالا يمتنع من الذباب ولا ينتصف به.
{إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الله يَصْطَفِي} يختار {مِنَ الملائكة رُسُلًا} كجبرئيل وميكائيل وغيرهما {وَمِنَ الناس} أيضًا رسلًا مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم، يقال: نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} [القمر: 25] فأخبر أن الاختيار إليه، يختار من يشاء من خلقه.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ} لقولهم {بَصِيرٌ} بمن يختاره لرسالته.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني ما كان بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم.
{وما خَلْفَهُمْ} ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم.
وقال الحسن: ما بين أيديهم ماعملوه، وما خلفهم ما هم عاملون ممّا لم يعملوه بعد.
{يا أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدَّثنا محمد بن يحيى قال: وفيما قرأت على عبد الله بن نافع، وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك عن نافع أنّ رجلًا من أهل مصر أخبر عبد الله بن عمر أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ثمَّ قال: انَّ هذه السورة فضلّت بسجدتين.
وبإسناده عن مالك عن عبد الله بن دينار أنّه قال: رأيت عبد الله بن عمر سجد في الحج سجدتين.
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: حدَّثنا ابن أبي خيثمة قال: حدَّثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة قال: حدَّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن صفوان بن مهران أن أبا موسى قرأ على منبر البصرة سورة الحج، فنزل فسجد فيها سجدتين.
وحدَّثنا أبو محمد المخلّدي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدَّثنا محمد ابن مسلم بن دارة قال: حدَّثنا محمد بن موسى بن أعين قال: قرأت على أبي عن عمرو بن الحرث عن ابن لهيعة ان شريح بن عاها حدّثه عن عقبة بن عامر قال: «قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما».
{وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ} يعني وجاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده، وهو استفراغ الطاقة فيه، قاله ابن عباس، وعنه أيضًا: لا تخافوا في الله لومة لائم وذلك حق الجهاد.
وقال الضحاك ومقاتل: يعني اعملوا لله بالحقّ حقّ عمله، واعبدوه حقّ عبادته.
عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى وذلك حقّ الجهاد، وهو الجهاد الأكبر على ما روي في الخبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رجع من بعض غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».
{هُوَ اجتباكم} اختاركم لدينه {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} ضيق فلا يبتلي المؤمن بشيء من الذنوب إلاّ جعل له منه مخرجًا بعضها بالتوبة وبعضها بالقصاص وبعضها برد المظالم وبعضها بأنواع الكفّارات، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلًا إلى الخلاص من العقاب فيه، ولا ذنب يذنبه المؤمن إلاّ وله منه في دين الإسلام مخرج، وهذا معنى رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حين سأله عبد الملك بن مروان عن هذه الآية فقال: جعل الله الكفارات مخرجًا من ذلك، سمعت ابن عباس يقول ذلك.
وقال بعضهم: معناه وما جعل عليكم في الدين من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر والأضحى ووقت الحج إذا التبست عليكم وشكّ الناس فيها، ولَكِنه وسّع ذلك عليكم حتى تتيقّنوا محلها {مِّلَّةَ} أبيكم أي كملّة {أَبِيكُمْ إبراهيم} نصب بنزع حرف الصفة، عن الفرّاء، غيره: نصب على الاغراء أي الزموا واتّبعوا ملّة أبيكم إبراهيم، وإنّما أمركم باتباع ملّة إبراهيم لأنّها داخلة في ملّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأمّا وجه قوله سبحانه: {ملّة أبيكم} وليس جميعهم يرجع إلى ولادة إبراهيم فإنّ معناه: إنّ حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد، كما قال سبحانه: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنا لكم مثل الوالد»، وهذا معنى قول الحسن البصري رحمه الله.
{هُوَ} يعني الله سبحانه وتعالى: {سَمَاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة {وَفِي هذا} الكتاب هذا قول أكثر المفسرين.
وقال ابن زيد: هو راجع إلى إبراهيم عليه السلام يعني أنّ إبراهيم سمّاكم المسلمين من قبل أي من قبل هذا الوقت في أيام إبراهيم {وفي هذا} الوقت، قال: وهو قول إبراهيم: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] والقول الأول أولى بالصواب.
{لِيَكُونَ الرسول شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} أن قد بلّغكم {وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس} أن رسلهم قد بلّغتهم {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله} وثقوا بالله وتوكّلوا عليه.
وقال الحسن: تمسّكوا بدين الله الذي لطف به لعباده.
{هُوَ مَوْلاَكُمْ} وليّكم وناصركم ومتولي أمركم {فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة الحج: آية 60]:

{ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}.
تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذاك مسبب عنه كما يحملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة. فإن قلت: كيف طابق ذكر العفوّ الغفور هذا الموضع؟ قلت: المعاقب مبعوث من جهة اللّه عز وجل على الإخلال بالعقاب، والعفو عن الجاني- على طريق التنزيه لا التحريم- ومندوب إليه، ومستوجب عند اللّه المدح إن آثر ما ندب إليه وملك سبيل التنزيه، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب، ولم ينظر في قوله تعالى: {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} {فإنّ اللّه لعفو غفور}، أى: لا يلومه على ترك ما بعثه عليه، وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه. ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي، ويعرّض مع ذلك بما كان أولى به من العفو، ويلوّح به بذكر هاتين الصفتين. أو دلّ بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة. لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه.

.[سورة الحج: آية 61]:

{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)}.
{ذلِكَ} أى ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة أنه {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجرى فيهما على أيدى عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه {سَمِيعٌ} لما يقولون {بَصِيرٌ} بما يفعلون. فإن قلت: ما معنى إيلاج أحد الملوين في الآخر؟ قلت: تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك بغيبوبة الشمس. وضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوعها، كما يضيء السرب بالسراج ويظلم بفقده. وقيل: هو زيادته في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات.

.[سورة الحج: آية 62]:

{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}.
وقرئ {يَدْعُونَ} بالتاء والياء. وقرأ اليماني {وأن ما يدعون} بلفظ المبنى للمفعول، والواو راجعة إلى ما لأنه في معنى الآلهة، أى: ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجرى فيهما وإدراك كل قول وفعل، بسبب أنه اللّه الحق الثابت إلهيته، وأن كل ما يدعى إلها دونه باطل الدعوة، وأنه لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا.

.[سورة الحج: الآيات 63- 64]:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السماء ماءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأرض وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)}.
قرئ {مُخْضَرَّةً} أى ذات خضر، على مفعلة، كمقبلة ومسبعة. فإن قلت: هلا قيل: فأصبحت؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: أنعم علىّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكرا له. ولو قلت: فرحت وغدوت، لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأنّ معناه إثبات الاخضرار، فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر: إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله {لَطِيفٌ} واصل علمه أو فضله إلى كل شيء {خَبِيرٌ} بمصالح الخلق ومنافعهم.

.[سورة الحج: الآيات 65- 66]:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الأرض وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السماء أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ (66)}.
{ما فِي الأرض} من البهائم مذللة للركوب في البر، ومن المراكب جارية في البحر، وغير ذلك من سائر المسخرات. وقرئ {وَالْفُلْكَ} بالرفع على الابتداء {أَنْ تَقَعَ} كراهة أن تقع إِلَّا بمشيئته {أَحْياكُمْ} بعد أن كنتم جمادا ترابا، ونطفة، وعلقة، ومضغة {لَكَفُورٌ} لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم.

.[سورة الحج: آية 67]:

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا هم ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)}.
هو نهى لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أى: لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك. أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في الدين وهم جهال لا علم عندهم وهم كفار خزاعة. روى أن بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله اللّه! يعنون الميتة. وقال الزجاج: هو نهى له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم، كما تقول: لا يضار بنك فلان، أى: لا تضاربه. وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين فِي الْأَمْرِ في أمر الدين. وقيل: في أمر النسائك، وقرئ: {فلا ينزعنك} أى اثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه. والمراد: زيادة التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بما يهيج حميته ويلهب غضبه للّه ولدينه.
ومنه قوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ}، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ}. وهيهات أن ترتع همة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حول ذلك الحمى، ولَكِنه وارد على ما قلت لك من أرادة التهييج والإلهاب. وقال الزجاج: هو من نازعته فنزعته أنزعه، أى: غلبته، أى: لا يغلبنك في المنازعة. فإن قلت: لم جاءت نظيرة هذه الآية معطوفة بالواو وقد نزعت عن هذه؟ قلت: لأنّ تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الاى الواردة في أمر النسائك، فعطفت على أخواتها. وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا.

.[سورة الحج: آية 68]:

{وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68)}.
أى: وإن أبوا للجاجهم إلا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع، فادفعهم بأن اللّه أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار، ولَكِن برفق ولين.

.[سورة الحج: الآيات 69- 70]:

{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السماء وَالأرض إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)}.
والإحاطة بذلك وإثباته وحفظه عليه يَسِيرٌ لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم.

.[سورة الحج: آية 71]:

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)}.
{وَيَعْبُدُونَ} ما لم يتمسكوا في صحة عبادته ببرهان سماوي من جهة الوحى والسمع، ولا ألجأهم إليها علم ضروري، ولا حملهم عليها دليل عقلى وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوّب مذهبهم.

.[سورة الحج: آية 72]:

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}.
{الْمُنْكَرَ} الفظيع من التجهم والبسور. أو الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام. وقرئ {يعرف} و{المنكر} والسطو: الوثب والبطش. قرئ {النَّارُ} بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، كأنّ قائلا قال: ما هو؟ فقيل: النار، أى: هو النار. وبالنصب على الاختصاص.
وبالجرّ على البدل من {بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ} من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم. أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلى عليكم {وَعَدَهَا اللَّهُ} استئناف كلام. ويحتمل أن تكون {النَّارُ} مبتدأ {ووَعَدَهَا} خبرا، وأن يكون حالا عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار قد.
[سورة الحج (22): آية 73]
{يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)}.
فإن قلت: الذي جاء به ليس بمثل، فكيف سماه مثلا؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب: مثلا، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم. قرئ {تَدْعُونَ} بالتاء والياء، ويدعون: مبنيا للمفعول لَنْ أخت لا في نفى المستقبل، إلا أن لن تنفيه نفيا مؤكدا، وتأكيده هاهنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم، كأنه قال: محال أن يخلقوا. فإن قلت: ما محل {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} قلت: النصب على الحال، كأنه قال: مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزله اللّه في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه حيث وصفوا بالإلهية- التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها- صورا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا. وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم: أن هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا. وقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف، لأن الذباب حيوان، وهو جماد، وهو غالب وذاك مغلوب. وعن ابن عباس: أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورءوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.